قصة العملة السعودية.. من النحاس إلى الورق
دفعت عوامل اقتصادية وسياسية في بداية تأسيس الدولة السعودية الثالثة الملك عبد العزيز إلى اتخاذ خطوات عملية تحد من الاعتماد على النقد الأجنبي الذي كان سائداً في المناطق التي تشكلت منها البلاد قبل توحيدها، وتداولت فيها عملات مختلفة باختلاف المناطق وتعددها، وقد اتخذ الملك المؤسس عام 1925 إجراء مؤقتاً تمثل في سك عملة نحاسية من فئة القرش حملت اسمه عندما كان يلقب بملك الحجاز وسلطان نجد، وجعل هذه العملة هي السائدة والمتداولة في البلاد الناشئة، ثم اصدر بعد هذا الإجراء بسنتين أول نظام للنقد باسم «نظام النقد الحجازي النجدي المسمى بالنقد العربي»، ومعه تم سك الريال العربي من الفضة الخالصة، كما تم سك فئة القرش من النحاس، وبذلك أصبح الريال وأقسامه عملة رسمية لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها اعتباراً من 14 يناير 1928، وربطت قيمة الريال العربي بالجنيه الإنجليزي الذي يساوي عشرة ريالات فضة عربية، وبذلك أخذت العملة العربية مكانها الطبيعي في التعامل بين أبناء البلاد، وبدأت العملات الأجنبية في الاختفاء.
وكان سبب ربط الصرف بالجنية الإنجليزي يعود إلى أن الدولة كانت تعتمد في تسديد مشترياتها الخارجية على هذه العملة، كما اتخذت الدولة اجراءات عملية لحماية نقدها والمحافظة على ثبات قيمتها من خلال اجراءت كانت في غاية الأهمية، لعل أبرزها إصدار عملة قانونية عرفت بالجنيه الذهبي السعودي، أعقب ذلك إصدار عملة ورقية عرفت باسم إيصالات الحجاج من فئات العشرة والخمسة ريالات، والريال الواحد. وساهم هذا النظام النقدي في تسهيل تقدير الواردات من مصادرها المختلفة محلية أو خارجية أو من النفط المرتبطة أسعاره بالعملات الأجنبية مما كان له تأثير كبير في موازنة الدولة.
ووفقاً للمعلومات التي سجلها العقيد الدكتور إبراهيم بن عويض العتيبي في دراسته التاريخية لتنظيمات الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز وغطت الفترة من عام 1924 إلى 1954 فإن التعامل النقدي في المناطق التي تشكلت منها السعودية كان يجري قبل توحيدها على تعدد العملات واختلافها باختلاف المناطق وتعددها. ففي المنطقة الشرقية استخدمت العملة الهندية بشكل رئيسي، وفي المنطقة الجنوبية استخدمت النقود العثمانية والإنجليزية، وفي نجد كثر تداول العملة النمساوية وغيرها من عثمانية وبريطانية وهندية، وفي الحجاز سادت العملة العثمانية والهاشمية في التعامل، هذا بالإضافة إلى ما يجلبه الحجاج من عملات أقطارهم. ولا شك أن هذا الخليط ـ بحسب الدكتور العتيبي ـ من العملات مع غياب عملة رسمية موحدة، أدى إلى فوضى في التعامل وأثر في العمل التجاري والرسمي، خاصة أن الدولة في البداية أبقت على التعامل بهذه العملات الأجنبية على اختلافها، بعد أن أضفت عليها الشرعية بوضع اسم بعض المناطق عليها.
وقد ورد في صحيفة أم القرى عام 1925، بلاغ رسمي يلزم المواطنين بالتعامل بالعملة المجيدية التي «مسح وجهها لقدمها، لعدم وجود البديل حتى لا تتأثر مصالح الناس». وهذا يفسر عمق المشكلة التي كانت تواجه الدولة في بداية أمرها من جراء التعامل بالنقود المختلفة.
ومما ضاعف من المشكلة أن الدولة لم تحدد أسعار صرف هذه العملات لعدم وجود مؤسسة مالية رسمية تشرف على شؤون النقد، فلحق الضرر بالمواطنين وبالدولة معا. وكان على الملك عبد العزيز أن يتخذ خطوات عملية تحد من الاعتماد على النقد الأجنبي، فبدأ بأولى خطوة لإصدار عملة رسمية، واتخذ في عام 1925، إجراء مؤقتا، تمثل في سك عملة نحاسية من فئة القرش ونصفه وربعه تحمل اسم «عبد العزيز السعود ملك الحجاز وسلطان نجد». وبعد طرحها للتعامل سحبت العملة الهاشمية بكامل فئاتها في عام 1926، خاصة أن المتداول منها حينذاك كان قليلا لا يغطي الاحتياج. ونتيجة لتداول العملة السعودية الجديدة، اختفت العملة العثمانية من فئة القرش. ومما ساعد على اتساع نطاق تداول العملة الجديدة، أن رواتب موظفي الدولة في الحجاز كانت تصرف بالريال المجيدي (العثماني)، الذي قلّ تداوله بعد خروج العثمانيين، مما سبب أزمة في صرف الرواتب، إذ لم تستطع مديرية المالية جمع أكثر من ألفي ريال مجيدي عام 1927. وحينئذ قرر مجلس الشورى أن تقوم المالية بصرف الرواتب من موجودها من المسكوكات، سواء كان ذهبا أم فضة أم خلافه. لكن مدير المالية اعترض على هذا القرار، واقترح أن توحد أسعار صرف العملات بالقروش التي ضربت عام 1925، ومن ثم يتم صرف الرواتب بالقرش الأميري، وفي ذلك حفظ لموارد الدولة، وحتى لا تضطر إلى شراء العملات الأخرى من الصرافين بأسعار مرتفعة.
وهناك عوامل أخرى دفعت الدولة إلى السير في طريق توحيد النقد، منها ما هو اقتصادي، ذلك أن الدولة كانت تسدد التزاماتها الخارجية بالجنيه الإنجليزي، وفي هذا خسارة مادية لها من جراء فرق العملة، ومنها ما هو سياسي، لأن اختلاف العملات في أقاليم الدولة يرسخ الإقليمية في الوقت الذي كانت الدولة تخطو فيه خطوات نحو الوحدة السياسية، ولهذا فإن توحيد العملة يسهم في تمتين الوحدة السياسية، يضاف إلى ذلك أن تحديد العملات يضاعف من تفشي ظاهرة تعاطي الربا نتيجة لبيع العملات وشرائها من نوع واحد ومادة واحدة، لكنها بأسعار مختلفة، ومثل هذه الممارسة تناقض المبدأ الإسلامي الذي قامت عليه الدولة.
ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة، وتحقيقا لمصلحة البلاد الاقتصادية والسياسية، أصدر الملك عبد العزيز عام 1927، أول نظام للنقد باسم «نظام النقد الحجازي النجدي المسمى بالنقد العربي»، وبذلك تم سك الريال العربي ونصفه وربعه من الفضة الخالصة، كما تم سك فئة القرش ونصفه وربعه من النحاس، يساوي الريال العربي في الوزن والعيار والتقسيم والصرف، الريال المجيدي. وأصبح الريال العربي وأقسامه عملة رسمية لمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها اعتبارا من 24 يناير 1928.
وربطت قيمة الريال العربي بالجنيه الإنجليزي الذهب، حيث ورد في نظام النقد أن «... الجنيه الإنجليزي الذهب هو الأساس لمقياس أسعار العملة الفضية العربية». فأصبح الجنيه الإنجليزي الذهب يساوي عشرة ريالات فضة عربية، أو مائة وعشرة قروش أميرية أي مائتين وعشرين قرشا دارجا، والريال العربي يساوي أحد عشر قرشا أميريا أي اثنين وعشرين قرشا دارجا. وكان الريال قابلا للتحويل إلى الجنيه الذهبي الإنجليزي بسعر الصرف. وسبب ربط الصرف بالجنيه الإنجليزي هو أن الدولة كانت تعتمد في تسديد مشترياتها الخارجية على الجنيه الإنجليزي، الذي كان من أقوى العملات العالمية وقتذاك. وهكذا أخذت العملة العربية مكانها الطبيعي في التعامل بين المواطنين وبدأت العملات الأجنبية في الاختفاء التدريجي.
ولحماية النقد العربي فرضت الدولة رسوما جمركية على العملات الفضية التي تدخل الى البلاد، ولضمان تغطية العملة العربية سمحت بدخول الذهب إلى السعودية من دون رسوم، سواء كان سبائك أو عملات. كما منعت خروج الذهب والفضة، عملات أو سبائك. وألزمت الصرافين بالحصول على رخصة من المجلس التجاري مع تقديم الكفالة قبل مزاولة مهنة الصرافة، مع التشدد في معاقبة مَن يقوم منهم ببيع عملات مزورة أو التي غيرت معالمها.
ثم أعيد في عام 1936، إصدار الريال العربي وفئاته من الفضة بحجم أصغر من الإصدار السابق نتيجة لارتفاع أسعار الفضة متأثرة بأزمة الاقتصاد العالمي، مع احتفاظ القرش وأقسامه بالأحجام السابقة. وحمل الإصدار الجديد اسم المملكة العربية السعودية، بدلا من مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها. وبدأ السحب التدريجي للإصدار السابق حتى تكامل في عام 1938. وفي عام 1945، ألغي التعامل بالعملة النيكلية وسحبت من التداول.
وفي عام 1939، تم الاتفاق مع فرع البنك الهولندي في البحرين على قبول التعامل بالريال السعودي مع المصارف وبيوت المال الخارجية، وهذا يمثل بداية العالمية للعملة السعودية.
وكان وزير المالية يصدر بين فترة وأخرى نشرات تحدد أسعار العملات بالنسبة للريال السعودي، مثال ذلك نشرة عام 1940، التي حددت سعر صرف الريال السعودي بالنسبة للعملات المتداولة في ذلك الوقت كما يلي:
«الجنيه الاسترليني الذهب يكون سعره 385 قرشا سعوديا، والجنيه المصري الورق 184 قرشا سعوديا، والجنيه الاسترليني الورق 146 قرشا سعوديا، والروبية الهندية 11 قرشا سعوديا. وحتى تحافظ البلاد على ثبات قيمة عملتها، خاصة خلال أزمة الحرب العالمية الثانية، اتفقت السعودية مع الولايات المتحدة الأميركية على إمداد السعودية بكميات من الفضة بسعر ثابت فحددت قيمة صرف الريال العربي السعودي بـ 20 سنتا أميركيا.
وقبل أشهر، جددت السعودية في ظل دعوات وتساؤلات حول سياسة سعر صرف الريال ومدى جدوى ربط العملة السعودية بالدولار، تأكيداتها بعدم وجود نوايا لتغيير سعر الصرف في الوقت الذي قامت به دول خليجية بفك عملتها من الدولار الأميركي وربطها بسلة من العملات العالمية الرئيسية.
وكان تقرير صادر عن مجلس الغرف السعودية اقترح توخي الحذر عند النظر لقضية ربط الريال السعودي بالدولار الأميركي، لكنه ذهب إلى القول إن الوقت قد حان للبحث عن مخرج وصيغة مناسبة لحل إشكالية علاقة الريال بالدولار في ظل تقهقر قيمة الأخير أمام العملات العالمية.
واستند التقرير على ثلاثة بدائل لحل الإشكالية الأولى فك الارتباط بين الدولار والريال، مشيرا إلى أن هذا الخيار قد يساعد السعودية في أن تكون بمأمن من سلبيات ربط الريال بالدولار، خاصة ما يتعلق بمعدلات التضخم وأسعار الفائدة الأميركية التي تجلب معها آثار الركود التضخمي من الاقتصاد الأميركي، في المقابل ربما يؤثر الخيار في الاستقرار النقدي السعودي مما ينعكس بدوره في الاستثمارات ومستويات الأسعار، ويدفع لمزيد من المضاربة على العملة، ويوجد صعوبات تتعلق بتغيير سعر صرف الريال كلما تحركت أسعار النفط صعوداً أو هبوطاً. وحمل الخيار الثاني للتقرير متضمنا توسيع نطاق تأرجح سعر الريال أمام الدولار بدلاً من الربط الثابت، في حين ذهب الثالث إلى ربط العملة السعودية بسلة من العملات وفقاً لتوزيع التجارة الخارجية، مشددا على أن اختيار أي من البدائل المطروحة في هذا المجال يتوقف في المقام الأول على أهداف السياسة النقدية في البلاد التي تلتزم بمبدأ الاستناد إلى الثوابت بدلاً من المخاطرة في إطار السياسة النقدية لدول مجلس التعاون الخليجي التي ستمكن هذه الدول من تحقيق الوحدة النقدية في عام 2010.
ورأى التقرير أنه من الأفضل ألا تتبنى السعودية أياً من هذه البدائل بمفردها، وإنما يكون في إطار توجه جماعي لدول المجلس لافتا إلى أفضلية أن تلتزم دول الخليج بنظام ربط العملات الوطنية ومن ثم العملة الموحدة الدولار، وهو النظام الذي دخلت إليه معا، أو تخرج معاً من هذا النظام وتتبنى بديلا يتفق عليه الجميع.
وعودة إلى إجراءات المحافظة على ثبات قيمة العملة القديمة (الريال العربي السعودي)، لوحظ أن السعودية لم تتسرع في إصدار عملة ذهبية لأن سعر صرف الريال العربي كان ثابتا بالنسبة للجنيه الإنجليزي. وعندما تحسن مستوى اقتصاد السعودية بعد انتظام تصدير النفط، وبعد فرض ضريبة الدخل وقيام الدولة بتوسيع دائرة تعاملها مع المؤسسات المالية العالمية، اصدرت الجنيه الذهبي السعودي الذي اعتبر عملة قانونية اعتبارا من 25 أكتوبر 1952، وكان مساويا في وزنه ونقاوته للجنيه الإنجليزي الذهب (جورج الخامس). وحدد سعر الصرف الرسمي للجنيه الذهب السعودي بأربعين ريالا سعوديا. وبدأ الجنيه الإنجليزي في الأفول في السوق السعودي وأصبحت السعودية تسدد التزاماتها الخارجية بالجنيه السعودي.
وقد واجهت السعودية في هذا التاريخ مشكلة تهريب الجنيه السعودي الى الخارج، خاصة مع الحجاج العائدين الى بلادهم، كما ان ارتفاع أسعار الفضة في هذه الفترة أغرى المتعاملين بها الى صهر الريالات الفضة وبيعها سبائك. وخوفا من حدوث نقص في معدني الذهب والفضة منعت السعودية تصديرهما للخارج. واصدرت اعتباراً من عام 1952 وعلى مدى ثلاث سنوات متتالية اول عملة ورقية عرفت باسم ايصالات الحجاج بفئات: عشرة ريالات، ثم خمسة ريالات، وريال واحد وبذلك أصبح في السعودية قاعدتان للعملة النقدية، قاعدة المعدن ويمثلها الذهب والفضة، وقاعدة العملة الورقية.
وهذا النظام النقدي كان له تأثير كبير في موازنة الدولة من حيث تقدير الواردات سواء كانت من الموارد المحلية أو من الجمارك على الواردات الخارجية أو من النفط المرتبطة أسعاره بالعملات الأجنبية. ونظراً لوجود ارتباط بين النقد ومصادر الدخل فلا بد من الاشارة الى مصادر الدخل في تلك الفترة، حيث ذكرت المعلومات التاريخية أن مصادر الدخل اختلفت باختلاف مراحل تكوين المملكة، ففي البداية كانت الزكاة والعشور بالإضافة إلى غنائم الحرب تشكل الموارد الرئيسية للدولة، وبعد استرجاع الاحساء عام 1912، أصبحت الواردات الجمركية وضريبة الجهاد من أهم المصادر المالية، وطرأ تحسن طفيف بعد ضم عسير، لكن التحول الكبير في مصادر الدخل حصل بعد دخول الحجاز نتيجة لجباية رسوم الحج وبعد إعادة تنظيم رسوم الخدمات التي كانت الدولة تقدمها للمواطنين وتحصل منها على موارد مالية كبيرة، ثم تضاعف دخل الدولة بعد استخراج النفط وتصديره وبعد فرض ضريبة الدخل وتنظيم فريضة الزكاة.
وكانت الدولة تنفق مواردها حسب الأولويات، إلا ان هذه الموارد لم تكن كافية لتغطية احتياجات الدولة الأساسية، لأن حروب تأسيس الدولة استنزفت مواردها القليلة، ولما استقرت أوضاعها السياسية لم تلب تلك الواردات نفقات الإصلاحات الإدارية، فاتجهت الدولة الى البحث عن المعادن، وبعد اكتشاف البترول وتصديره عام 1938 أصبحت الصادرات النفطية تشكل المصدر الرئيسي لدخل السعودية، ابتداء من سنة 1939، ما عدا فترة توقف تصدير النفط لظروف الحرب العالمية الثانية.
وخلال هذه المراحل كانت الدولة تنظم وسائل دخلها والعمل على إيجاد مصادر جديدة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وهذه الموارد اختلف تأثيرها في دخل الدولة من فترة إلى أخرى، بل ان بعضها الغي كمورد للدخل في فترة لاحقة، ولهذا يستحسن دراسة الموارد من خلال فترتين مختلفتين، فترة ما قبل اكتشاف النفط وفترة ما بعده.
ففي الفترة الأولى كانت مصادر الدخل لا تكفي لمتطلبات الإدارة، إذ لم تتجاوز واردات نجد والاحساء السنوية عام 1917، مائة ألف جنيه استرليني، يضاف إليها معونة بريطانية مقدارها ستون ألف جنيه سنويا، وبعد انضمام منطقة عسير إلى نجد عام 1919، ارتفع الدخل إلى مائة وخمسين ألف جنيه مع استمرار المعونة الإنجليزية.
وطرأ تحسن على دخل البلاد بعد انضمام الحجاز عام 1925، نتيجة لعاملين، أولهما زيادة الحركة التجارية بعد أن أصبح للمملكة منفذان بحريان، واحد على الخليج العربي والآخر على البحر الأحمر مما زاد في الدخل، وثانيهما جباية رسوم الحج، وإن كانت هذه الرسوم تتأرجح متأثرة بعدم ثبات أعداد الحجاج الذين قدموا إلى البلاد لعدة عوامل مختلفة.
منقول عن صحيفه الوطن الفلسطينيه
صفحة جديدة 2