حالة العبث في ثرثرة نجيب محفوظ
محمد السعد
في حوارات الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ مع الصحفي المصري رجاء النقاش, تطرق لروايته المثيرة للجدل “ثرثرة فوق النيل” التي ظهرت في عز مجد الرئيس جمال عبدالناصر, وفي وقت كان الإعلام الرسمي يحاول ليل نهار أن يؤكد للناس إنتصار الثورة والنظام, نبه من خلال الرواية إلى كارثة قومية, كانت قد بدأت تطل برأسها على السطح, وكان لابد أن تكون لها نتائجها الخطيرة.
تطرق إلى محنة الضياع وعدم الإحساس بالإنتماء التي يعاني منها الناس, خاصة في أوساط المثقفين, الذين أنعزلوا عن المجتمع, وأصبحوا في شبه غيبوبة, فلا أحد يعطيهم الفرصة ولا هم قادرون على رؤية الطريق الصحيح.
الرواية في مجملها عبارة عن مجموعة من الحوارات بين مجموعة من الأصدقاء داخل عوامة فوق النيل, في أجواء مكتظة بالعربدة وإدمان تعاطي الحشيش, محادثات في السياسة والفلسفة والأحوال الاجتماعية المتردية, وكأن نجيب محفوظ يريد لنا أن نأخذ الحكمة من أفواه المساطيل, وإياك أن تعتقد بأن الرواية ليست سوى “هرطقة مساطيل” أو “نكت حشاشين” ففي أعماق الثرثرة ستجد أنك أمام عملاً فلسفياً رفيع المستوى.
ليست ثرثرة عادية إنما هي صراع داخلي لشخصيات فاقدة للأمل والطموح والرغبة في العيش, مفضلة الهرب للعوامة لتبديد الوقت, فهي ملاذ لهم للإنفصال عن الواقع المرير والمستقبل الغير واعد.
إنه الشعور باللامبالاة والميل إلى بوهيمية ثقافية طالما عشقها المثقف للهرب من مجتمعه, فكان الحشيش وسيلة تغيب العقل والعوامة وسيلة تغيب الجسد, إستطاع محفوظ أن يكرس مفهوم العبث الفلسفي والفكري في الرواية كرد فعل طبيعي للأحوال الاجتماعية والسياسية المتردية.
كان تاريخ طرح الرواية سابق لنكبة حزيران الشهيرة, والمجتمع العربي أنذاك حديث عهد بهذه المفاهيم الفلسفية, فهل أراد نجيب محفوظ أن تكون روايته نبؤة مستقبلية وإستشراف لوقائع قادمة؟ أو كشف وتعرية للأصوات الإعلامية المنحازة للسلطة والتي تتغنى دائماً بإنعدام السلبيات؟
لا أحد ينكر بأن نجيب محفوظ هو الرائد وصاحب الأسبقية في نقل تجربة العبث للأدب العربي, وهي نزعة إنسانية عرفت في الثقافة الغربية وتوجه فكري شاع في الفلسفة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية خاصةً, مما يعني بأن تطبيق هذه التجربة في المجتمع العربي كان سابقاً لأوانه وينقل رواية “ثرثرة فوق النيل” من خانة الأعمال التي تصور الواقع المعاصر ويضعها في خانة الأعمال التي تتنبأ بالمستقبل.
كان للأديب الأمريكي إرنست همنغواي عملاً أدبياً يحمل عنوان “الشمس لا تزال تشرق” عالج فيها تجربة العبث وحملت رؤية فكرية كان مبعثها الأحوال السياسية المتردية التي يعايشها أبطال الرواية بعد الحرب العالمية, والأبطال هم بطبيعة الحال شخصيات فاقدة للهدف تعاني الإفلاس الروحاني, يقضون أوقاتهم في التسكع وشرب الكحوليات والتنقل بين المدن بلا هدف معين.
وقد لا تكون “ثرثرة فوق النيل” إرهاص لهزيمة عسكرية تتنبأ بالنكسة, بقدر ما كانت تصوير نفسي وروحي لهزيمة داخلية, وتحذير من حالة الفساد والتسيب والإنحلال التي إستشرت في المجتمع وتؤكد أن الأمور تنحدر نحو الأسوء, وتعكس التشاؤم تجاه مستقبل المجتمع المصري.
ومن الإسقاطات الماهرة في الرواية والتي جعلت نجيب محفوظ يختزل الرواية في “قعدة حشيش” لأن الحشيش كان للطبقات الفقيرة نعم الصديق لأنه خفف عن الناس المرارة التي يعيشونها, وقد إرتبط الحشيش أيضا بظاهرة ميزت الشعب المصري وجعلته يشتهر بها بين أمم الأرض وهي “النكتة” فالكم الهائل من النكت كانت وسيلته لمواجهة القهر والظروف الاجتماعية الطاحنة, فلم تخل “ثرثرة فوق النيل” من النكتة والحشيش وهي وسائل نجيب محفوظ الخاصة لتكريس ظاهرة العبث في الأدب.
صفحة جديدة 2
__________________