ياليبراليي السعودية.. تعالوا الى كلمة سواء
بواسطة: همومنا
من المأثور "المعاصر" عن الليبرالية أنك "إذا لم تكن ليبراليا وأنت شاب، فأنت بلا قلب، وإذا لم تكن محافظا وأنت كبير فأنت بلا عقل"، قد يبدو ذلك محفزا وملهما لتطوير فكرتنا عن الليبرالية بوصفها مفهوما يدعم حقوقنا في الحصول على الحرية الشخصانية وإعلاء قيمها على حساب أي قيم أخرى، وذلك بالضبط هو جوهر الاختناق الليبرالي الذي نعانيه، فالليبرالية بمحملها الساذج أصبحت مثل العظمة التي وقفت في الحلق، فلا هي تابعت مسارها لتهضم في الدورة الهضمية، ولا هي خرجت لتستريح النفس من آلام الغصّة.
الليبرالية التي يتشدق بها الكثيرون، مشوهة وشائنة، اتخذها أولئك فرسا بلا لجام للانطلاق في الميدان الفكري والاجتماعي تحت ضغط الهوس بالحرية الفردية والتحلل من القيم الاجتماعية والدينية، باعتبار أن المقدس هو ما يتخذونه عقيدة فكرية تعلي من شأن الفردي وتقصي الجماعي، ولذلك حال اصطدامهم بالدين مارسوا صورا معقدة في التعطيل والتوصيف غير اللائق، وفي الحقيقة يبدو الأمر كما لو كان صداما مقصودا بذاته مع الدين باعتباره جامعا لكل القيم سواء كانت أخلاقية أو فردية واجتماعية أو سياسية وثقافية، فهو المرجع الحاسم لكل سلوكياتنا وأنشطتنا وما نفكر فيه، وذلك أيضا ما يجعلنا نميل الى تفسير تغليب "الأنوية" أو ما يعرف سيكلوجيا بـ "الأنا العليا" أو super ego في كل نظرتهم لما عداهم ويجعلهم في تضاد مستمر ومزمن مع الآخر.
هناك سوء فهم عميق لليبرالية في المجتمع السعودي تحديدا، فهو مجتمع متحوّل يعيد اكتشاف نفسه من واقع المعطيات والمحفزات من حوله، وأثناء ذلك ظهر الليبراليون في السنوات الأخيرة، وبدؤوا مباشرة خوض معركة مع الوسط الاجتماعي بكل مكوناته خصوصا مع الدين باعتباره المكون والمرجع الرئيسي لكل أخلاقيات وقيم المجتمع، والليبرالية كمفهوم تتقاطع مباشرة مع القيم الإنسانية بإطلاقها، وذلك يفرض احتكاكا مباشرا وتلقائيا مع الدين، وعندما لا تكترث لسلوك الفرد فهذا يعني عدم التزامها بأي ضوابط أو قيود تحد من إفراط السلوك البشري أو الفردي في التحلل أو التفسخ، فهي غير معنية بأن يسير الفرد الليبرالي ثملا في الكورنيش أو المركز التجاري، مثلا، لأن ذلك من صميم حقه في الحرية الفردية، هكذا يريد الليبرالي أن يكون، وإذا تمتع بقاعدة دينية ورأى أن من يحاسبه الله فقط دون السلطان البشري، فهو تلقائيا ينفصل عن الضوابط الهادية للجميع، وذلك ما قصدته عن الفكرة الإقصائية لقيم المجموع وتغليب القيم الفردية حتى لو كانت متحللة.
كثير من الليبراليين فهموا الليبرالية بسذاجة، وأخذوا منها حقهم في الحرية الفردية بسطحية ناتجة من سطحية الفهم الكلي لها، وعندما تكون متدينا فذلك لازم معنوي من لوازم الذات الإنسانية، وكذا الحال بالنسبة لاتخاذ الليبرالية منهجا فكريا، ولكن الاتجاه بها لمصادمة الفكر والتيارات الدينية يجعلنا نعيد النظر في ذلك القدر الكبير من السطحية التي تعاطت مع المفهوم وخلقت معارك وهمية كتلك التي خاضها دون كيشوت مع طواحين الهواء، وذلك ليس في صالح المجتمع أو حتى هؤلاء، وعليه يمكن استنتاج أن الليبرالية السعودية شكّلت مصدرا لكارثة فكرية تهدد القيم الاجتماعية وحق المجتمع في تشكيل نظامه الاجتماعي بحسب القاعدة الدينية النقية التي لا تعكرها مداخلات وإسقاطات فكرية على نحو المسخ الليبرالي في قضية الحرية تحديدا.
ولم يكن، ولا يزال، متوقعا مع سطحية الليرالية والليبراليين أن تحدث مقاربة بين تلك الحرية الواسعة التي يوفرها الدين، والتي يريدها هؤلاء على نسق ما ذهب اليه جان جاك روسو بقوله "الحرية الحقة هي أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا"، ذلك غير ممكن، أقصد اشتراع الحرية لأنفسنا، طالما أن ديننا يصف النفس بالأمّارة بالسوء وأنها لوّامة، وذلك ما يوجب ضوابط تلجم تلك النفس، وروسو على ما يبدو لم يتمكن من قراءة نص قرآني يهديه الى حقيقة متأصلة في النفس على عكس من يجعلونه إماما لهم، دون إجهاد الفكر في تحقيق مقاربات ولو كانت خاطئة، ولكننا اعتدنا النقل والاعتناق الحرفي لأفكار الثقافة الغربية، وذلك ما يمكن التماسه في الفكرة الليبرالية بأكملها، والتي يمكن اختزالها في أنها لا تعني أكثر من حق الفرد أو الإنسان في أن يحيا حرا كامل الاختيار وما يستوجبه من تسامح مع غيره لقبول الاختلاف.
وإذا كانت الحرية والاختيار هما أساس الفلسفة الليبرالية، فإن الدين في كثير من المواضع أعلى من تلك الحرية ومنحها للإنسان فيما يدركه ويعقله، بل وأعفاه من المسؤولية إذا تعطل العقل وهو مناط التكليف، ولذلك تنتفي حاجتنا لليبرالية وفلسفتها عندما نعيد تقييمها وفقا للمعايير الدينية، وقد ظهرت اجتهادات ومحاولات للتناغم بينها والفكر الديني الإسلامي، ولكنها في إطار ثوري وانقلابي على السلطة، وهذا يتناقض أيضا مع معطيات الحاكمية والسياسة الشرعية، فالصدام والخروج على السلطة غير مجاز شرعا إلا في حالات محدودة تتعلق برأس السلطة في الإسلام، ولذلك لم تنجح تلك المحاولات أيضا في تكوين ما يمكن أن يعرف بالإسلام الليبرالي الذي يتطلب مفاهيم فرعية خاصة بالاقتصاد الإسلامي والسياسة الشرعية وضوابط المجتمع، لأن من ساروا في هذا الاتجاه كان لزاما عليهم أن يصطدموا أيضا بالمكونات الدينية التي تحدد منهج الحياة بأكمله مما هو منصوص عليه في القرآن أو استكملته السنة، قولا أو تقريرا أو فعلا، بالتوضيح ومجريات فقه الواقع وبقية الأصول الأساسية للدين من اجتهاد وقياس وغيره.
إذن نحن في الواقع قريبون من الفوضى الفكرية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية عندما نناقش ونبحث الليبرالية وما يدعو اليه الليبراليون، وعندما نكون بذات السطحية التي عليها الليبراليون المعاصرون فإننا سنختنق بعظمة الليبرالية التي تجعل من حريتنا نوعا من الحق في التداخل والتقاطع مع الآخر دون مسوغ عقلي يبرر سلوكياتنا، ولذلك دخل الليبراليون أول أمرهم في صدام عنيف مع المؤسسات الدينية والتيارات السلفية والمعتدلين، لأنهم إذا أرادوا التبشير بدعاواهم فلا بد لهم من تجاوز عقبة هؤلاء، ولكنهم فشلوا ليس لقوة خصومهم أو حجتهم الليبرالية، ولكن لأنهم تعاملوا مع معطيات الواقع بسطحية، فالحرية الفردية ليست هبة ليبرالية، ولا يمكن للفرد أن يتوحش بحرية فالتة من كل عقال أو قيود، حتما يجد نفسه منهار أخلاقيا وارتكب خطيئة وكبيرة بحق نفسه، ولذلك وإن خفت نجم الليبراليين وأفل فذلك مردّه الى تلك السطحية التي أعض عليها بنواجذي كمبرر لهوان الفكرة الليبرالية وسفهها فهي ليست مما يقوّم معوجا أو يستعيد حرية ضائعة بافتراض ضياعها، ولكن لأن الدين أقوى من أن يشاغب بساقط القول والفكر، فليبقى هؤلاء الليبراليون على ما هم عليه إذا كان ذلك اختيارهم أو يدفنوا أنفسهم في الرمال فيريحوا ويستريحوا، فالحق الاجتماعي والثقافي أكبر من إزهاقه بمحفوظات روسو وأنبياء الليبرالية الغربية.
المصدر صحيفة وطني
صفحة جديدة 2