أقدم الأسماء العربية للخليج العربي في الكتابات المسمارية
أقدم الأسماء العربية للخليج العربي في الكتابات المسمارية
بقلم: د. قصي منصور التُركي
الجذور التاريخية لحقيقة وهوية تسمية «الخليج العربي»
مرة أخرى يطفو على سطح الساحة الثقافية والإعلامية موضوع قديم جديد عن اسم الخليج العربي، وكمختص وأكاديمي اسمحوا لي أن أدون هذه الأسطر بدراسة أكاديمية بحتة لا غنى عنها لمن يريد أن يعرف حقيقة اسم الخليج العربي وصفا واسما، ذي دلالة لغوية عربية، وكيف شاع خطأ تسميته الخليج الفارسي، لذا فمن قراءة هذه الأسطر ستعرف أيها القارئ الكريم أن الخليج عربي الاسم والهوية شاء من شاء وأبى من أبى.
الاسم عند السومريين والاكديين من الألف الثالث قبل الميلاد:
منذ أقدم الأزمنة وأول الحروف والأصوات المدونة التي نطق بها بنو البشر واكتشفت كتاباتها وردت التسميات الخاصة عن الخليج العربي باعتباره مجالا مائيا مرة، ومنطقة لأرض غير محددة مرة أخرى.
فأول من دون وكتب لغة منطوقة هم السومريون، إذ عرف مصطلح ساحل البحر (أي الخليج) والخليج نفسه، باعتباره مجالا مائيا:
ذكر باسم «البحر» في مصادر النصوص المسمارية السومرية القديمة بلفظ «أ. أب. با» (A.AB.BA) أي البحر، لعدم تفريقهم بين الخليج والبحر.
وردت تسمية الخليج العربي بأربعة مقاطع لفظها «أ. أب. با. سكـ» (A.AB.BA.SIG)، وترجمتها العربية «البحر الأسفل».
وسمي ما ترجمته «بحر شروق الشمس» ولفظه ثلاث علامات قراءتها «او.أي. أ»..(U4.E.A)(1)
وذكرت أسطورة الطوفان السومرية أن «زيوسدرا» رجل الطوفان كان منعزلا في أرض (جزيرة البحرين) «دلمون» (Dilmun) حيث مكان شروق الشمس اب الخليج العربي(2).
وسمي أيضا «بحر شروق الشمس الكبير» «أ. أب. با. او. أي.أ كال» (A.AB.BA.U4.E.A GAL) (3).
ومن كتابة مسمارية على مخروط فخاري من فترة حكم الأمير السومري «كوديا» Gu-Dé-A)) أمير مدينة «لكش»Lagas) ((2124-2144 ق.م) - والمخروط من مقتنيات معهد الدراسات الشرقية الياباني-أطلق كلمة ساحل البحر على الخليج وفق المصطلح التالي لكلمة ساحل بالسومرية «كو» (Gu) ويقابله باللغة الأكدية «كشادو»(Kisadu)، ومقرونا بكلمة بحر السومرية «أب- با» (AB-BA) ويقابلها باللغة الأكدية «تامتو» (Tâmtu)، وقرأت العلامات المسمارية كاملة بالمقاطع الثلاثة التي قراءتها: (Gù.ab. Ba) «كو.أب. با» وذلك في السطر التاسع من المخروط المذكور (4).
أما في اللغة الأكدية فقد جاءت التسمية في الوثائق واللغة الأكدية،(5) مرادفة لنفس المعنى السومري تقريبا وبالصيغ الآتية:
كلمتين لفظهما «تامتي شابلتي» (tâmti sapliti) وترجمتهما «البحر الأسفل».
وبلفظ «تامتي شاصيت شمشي» (Tâmti sasit samsi) وترجمتها «بحر شروق الشمس»(6).
وعرف بلفظ «نار مار- را- تي» (Nar mar-ra –ti) وترجمته «النهر المر» (المالح) أو البحر المر، وهي إشارة إلى الملوحة الزائدة للمياه الضحلة الموجودة في معظم أراضي الخليج العربي وخاصة خلال أشهر الصيف(7).
كما جاء بالأكدية بصيغ أخرى مختلفة قليلا عن نفس اللفظ والمعاني السالفة منها «تي- أ- أم- تم» (Ti-a-am-tim) وتترجم إلى «البحر السفلي»(8).
وذكر الخليج العربي باسم البحر السفلي بوصفه اسما تضمن مقاطع من اللغة السومرية وأخرى أكدية ممزوجة في الصيغة التالية: «أ. أب. با شابلتي» (A.AB.BA sapliti)، أي البحر السفلي(9).
لماذا سمي الخليج البحر السفلي؟:
إن تعليل ورود التسمية أعلاه -البحر السفلي- أكثر من غيرها من التسميات السومرية أو الأكدية لكون سكان بلاد الرافدين القدماء عرفوا بحرين كبيرين أحدهما في الجهات الشمالية الغربية، أطلقوا عليه تجاوزا اسم البحر الشمالي أو البحر الغربي العظيم، وقصدوا به البحر المتوسط، تمييزا له عن الخليج العربي الذي يقع إلى الجنوب والشرق من بلاد الرافدين، فسمي الخليج البحر السفلي، أو الجنوبي، أو الذي تشرق منه الشمس، بينما سمي البحر المتوسط البحر العلوي، أو بحر الشمال، وقد ورد في النصوص السومرية بالصيغة التالية «أ. أب. با.اكي. نم. ما» (A.AB.BA.IGI.NIM.MA)(10)، وجاء في اللغة الأكدية بنفس المعنى وبلفظ «أولتو تامتي» ultu tâmti)(11).).
إن تسمية الخليج العربي بالبحر السفلي والبحر الأبيض المتوسط بالبحر العلوي تحمل دلالتين مهمتين، أولاهما: اتصال مياه هذين البحرين تقريبا من خلال امتداد مياه نهر «الفرات» في أعاليه التي تقترب كثيرا من أطراف السواحل اللبنانية وخصوصا أثناء مروره بالأراضي السورية،(12) وثانيا إن كلا هذين المصطلحين يكشفان عن أصلهما الجغرافي القديم المرتبط بحضارة بلاد الرافدين وليس بحضارة أخرى، باعتبار أن ارض الرافدين تمثل الرابط الحقيقي والرئيسي لطرق النقل والتجارة المائية العالمية بين الخليج وأعالي الفرات ثم البحر المتوسط(13).
ولدينا أخيرا من فترة سلالة أور الثالثة نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، نص مسماري يمثل رسالة كتبها شخص يدعى «بوزوشلجي» (Puzu-sulgi) موجهة إلى الملك «إبي- سين» (Ibbi-sin) (2086-2004 ق. م.) آخر ملوك السلالة المذكورة، لهذه الرسالة أهمية كبيرة، فهي تسمى الخليج العربي بتسمية «بحر عمان» (مجان) وفي اللغة السومرية بلفظ «أ. أب. با. ما. جان. كي» (A.AB.BA.MA.GAN [KI])، بدلا من التسمية الشائعة «البحر السفلي»، ومن الجدير بالذكر أن هذا الاسم ذكر لأول مرة في النصوص، ويكاد يكون النص الوحيد الذي يشير إلى هذه التسمية (14)، ومن المرجح أن هذه التسمية قصد بها خليج عمان وليس الخليج العربي في المفهوم الحالي، حيث سمي «خليج عمان» أو «بحر مجان» وهي نفس التسمية التي عرف بها خليج عمان لفظا ومعنى، أو أنها تدل على السيطرة السياسية والاقتصادية التي فرضها أهل مجان (عمان) على الخليج بأسره، فأطلق عليه من تعامل معهم اسم خليج مجان، ويدل على ذلك اسم مرسل الرسالة الذي كما قلنا «بوزور شلجي» إذ يتكون مقطع اسمه الثاني من اسم ثاني ملك لسلالة أور نفسها وهو الملك «شلجي» (sulgi ((2049-2047ق. م)، ومن المحتمل جدا أن يكون من سكان «أور» لكونه يصف اهتمامه بتقديم هدايا جلبها من مناطق متفرقة من بينها بحر «مجان»(15).
الاسم عند البابليين والكاشيين من بداية ومنتصف الألف الثاني قبل الميلاد:
تشير الأدلة التاريخية في الكتابات المسمارية الأشورية والبابلية إلى أرض عرفت بأرض البحر أو القطر البحري وأخذت ضمن التسلسل التاريخي للعراق القديم اسم «سلالة البحر الأولى»(16) وبالبابلية «مات تامتيم» (Mat Tamtim)، والتي لا يعرف على وجه الدقة امتدادها لكنها شملت في الغالب كلا من منطقتي الخليج وأهوار جنوب العراق، على الرغم من عدم وصول أي وثائق من المنطقة نفسها تبين مدى امتداد أرض البحر والأقطار التي شملتها، إلا أن تسمية بلاد البحر تجعلنا نخمن أنها تدل على منطقة واسعة كانت تشمل جزءا من أراضي منطقة الخليج العربي وربما غالبيتها، وتشير مصادر الفترات التاريخية المتخصصة في بلاد الرافدين إلى أن سلالة البحر الأولى (of the Sealand First Dynasty)، التي حكمت بعد نهاية سلالة بابل الأولى (1894-1595 ق.م)، واستمرت حتى بداية السلالة الكاشية (1677- 1155 ق.م.)، حكم خلالها أحد عشر ملكا، كان أولهم «أيلومايل» (Ilumael)، حوالي 60 عاما وآخرهم «أيا- جميل» (Ea-gamil)، حوالي 9 سنوات.(17)
كما يرد المصطلح «كاردونياش» (kordunias) الذي استعمل فيما بعد و خلال العصر الكاشي (1677-1155 ق.م.) ليشمل مناطق من أراضي الخليج العربي والعراق، من الصعب معرفة حدودها، بينما ذكرت نصوص الملك الآشوري «آشور بانيبال» (Assur banibal) (668-627ق.م.) التسميتن، أي «أرض البحر» و«كاردونياش» بمعنى واحد (18).
أما اللفظة «كاردونياش» (Kar.duni.ia.as) فقد اختلف في معناها الكاشي والتي من المحتمل أنها تعني «بلد الرب دونياش» (الإله الكاشي)، أو أن اللفظة قصد بها أرض البحر نفسها (أي منطقة الخليج العربي)، ودليل ذلك أن الملك الكاشي أولابوراريياش (U-la-bo-ra-ri-ia-as) حوالي (1450 ق.م) الذي عرف أنه أول من اتخذ لقب «ملك كاردونياش» هو نفسه قد لقبّ «ملك أرض البحر» حيث نقرأ العبارة التالية:
U-la-bu-ra-ri-ia-as Mar Bur-na-bur-ia-as sarri sa Màt Tamtim
البحر بلاد الذي ملك بورنابورياش ابن أولابوراريياش
والترجمة العامة: أولابوراريياش ابن بورنابورياش الذي (هو) ملك بلاد البحر.(19)
اسم الخليج العربي ومعناه في اللغة الآشورية من أوائل ومنتصف الألف الأول قبل الميلاد:
اللغة الآشورية نسبة إلى الآشوريين من أصول سكان الجزيرة العربية الذين استوطنوا في حياتهم المدنية بمدينة أشور مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وعندهم عرف الخليج باسم «البحر المر» (البحر المالح) وبلفظ «نار مارّاتو» (Nar Marratu)، وهي نفس التسمية الأكدية، ونفس الشيء يقال عن باقي التسميات الأكدية التي استعملها الآشوريون في لغتهم، مثل «البحر الأسفل» أو «البحر الجنوبي» أو «بحر شروق الشمس» (20). وفيما يخص معنى لفظة «نار» (Nar) فتعني «نهرا» أو «طريقا مائيا» أو «قنالا»، لأن حرف الهاء غير موجود باللغة الاشورية والاكدية عموما. أما لفظة «مارّاتو» (Marratu) فتعني بالمعنى الجغرافي «مستنقع» وبشكل عام «هور»، (21) ومن المعروف أن مصب نهري «دجلة» و«الفرات» قديما في الخليج كان ولا يزال تسبقه مساحات مائية شبه ضحلة تتمثل في «الأهوار» و«المستنقعات»، ولعل اختلاف عذوبة مياه «دجلة» و«الفرات» أي الملوحة (المر) عند دخولهما الخليج جعل التسمية أعلاه تعمم على الخليج والمناطق التي يتصل بها جنوب العراق.
أما بشأن ذكر اسم المنطقة للخليج كمملكة مدينة، فقد ورد ذكرها في أواخر العهد الآشوري وهي مملكة «بيت ياكين» (ياكين) وبالأكدية (Bit ia – kin)، وشمل نفوذها الأقسام الجنوبية من العراق وحتى البحرين في الخليج العربي، كما تكرر ذكرها في المراسلات الاشورية وأخبار الحروب منذ عهد الملوك الاشوريين- «سرجون» (705-721 ق.م) و«سنحاريب» (681-704 ق.م) و«آشور بانيبال» (668-626 ق.م) - ومن المرجح كون عاصمتها هي موقع «تل أبو الصلابيخ» (Abo Al-Salabeh) الواقع في أطراف «هور الحمار»، أقصى جنوب العراق، حيث أظهرت الفخاريات المكتشفة بالتل تسلسلا زمنيا يبدأ مع الدولة الأكدية وينتهي بالعصور الإسلامية المبكرة، ومن بين أهم الاكتشافات التي تهم الموضوع كتابة مسمارية قصيرة على رقبة جرة قرأت: (a bit Ia-Kins) وترجمتها «الذي (يخص أو يعود إلى) بيت ياكين».(22)
اسم الخليج في الكتابات اليونانية والرومانية
من منتصف القرن الأول قبل الميلاد:
تفيدنا كتابات اليونان والرومان عن أسماء الخليج العربي المتعددة، من بينهما التسمية التي لا تجانب الحقيقة بصفته العربية على يد الجغرافي اليوناني «سترابو» (64 ق. م - 19 ميلادية)، الذي ذكره بصيغة «Sinus Arabiscus» أي البحر العربي (23)، بيد أن أغلب الكتابات اليونانية الأخرى عرفته باسم «الخليج الفارسي» مرة، أو «البحر الفارسي» مرة أخرى، ومن بين هذه التسميات:
Persikos Kolpos، Sinus Persicus، Mare Persicus، Persicy Pelagos، Persicus Colpos Persicos Mare
وقد نسب اليونانيون الخليج إلى «فارس» لأن الفرس كانوا معروفين في فترات تعاظم قوتهم عند الإغريق وأكثر اتصالا بهم من العرب، ولأن الإغريق والفرس كانوا حكومات لها قوة بحرية، وليس في هذه النسبة دلالة على تملك الفرس للخليج، فالتسمية إذن إنما هي نسبة وليس فيها ما يفيد التملك أو الاستيلاء(24).
ولم تكن معارف الرومان عن الخليج واضحة مثل معارفهم عن الخليج الثاني المسمى عندهم (Mare Erythaeum) أي «البحر الأحمر»، لأن الكلمة الثانية في اليونانية هي اللون الأحمر، بيد أن الرومان أطلقوا هذه التسمية على البحر العربي وليس على البحر الأحمر الحالي، ولهذا نجد أن الخرائط اليونانية القديمة خلطت بين تسميات الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر العربي، فقد تسمى البحر العربي عندهم بالبحر الأحمر (Mare Erythaeum) والبحر الأحمر بالخليج العربي (Sinus Arabicus)، وذلك واضح في خارطة «هيرودوتس للعالم». (25) وبعد هذا الخلط لأشهر مؤرخي اليونان والذي يسمى أبا التاريخ، فهل من الصواب أن نعتمد تسمية اليونانيين للخليج العربي بالفارسي، ونترك المصادر التي سبقت اليونانيين بمئات السنين.
اسم الخليج في الكتابات الفارسية من القرن الرابع الهجري:
إن أقدم الإشارات الواردة حول اسم فارس أو القبائل الفارسية لا يتعدى القرن التاسع قبل الميلاد، فأول إشارة تاريخية مهمة عن الفرس وبلادهم وردت في كتابات الملك الآشوري «شيلمنصر الثالث» وتحديدا في عام حكمه السادس عشر عام 843 والرابع والعشرين عام 835 قبل الميلاد، حيث يذكر لنا هذا الملك اسم قبيلتين مهمتين هما قبيلة «أمادي» (Amadai) أو «مادا» (Màda) أي الماذيون، وقبيلة باسم «بارسوا» (Parsua) أو «بارسا» (Parsa) أي فارس، وقد تكررت الإشارات إلى هاتين القبيلتين لدى كتابات الملوك الآشوريين اللاحقين دون غيرهما، مما يعني أن أكبر القبائل الإيرانية الأصل أشهرها «الماذيون» و«الفرس». وقد أمكن تتبع اتجاه وانتقال هاتين القبيلتين الكبيرتين في بلاد إيران حتى استقرارهم في الموطن التاريخي الخاص بهم، فتبين أن الفرس اتخذوا من الجهة الجنوبية الغربية لإيران منطقة لاستقرارهم، بينما فضّل الماذيون الاستقرار شمالا وراء الحاجز الجبلي بمحاذاة بلاد الرافدين غرب إيران، بيد أن الغلبة كانت على الدوام للقبائل الماذية، وفي المعتقد كان الفرس دون الماذيين مرتبة، إذ حكموا في موطنهم مستقلين مرة وتابعين للماذيين مرة أخرى وذلك في حدود القرن السابع قبل الميلاد، إلى أن فرض الملك الماذي «كياخسار» (Cyaxares) ((633-584ق.م) سلطته الكاملة على الفرس، حتى ظهر بين الفرس قائد محنك اعتبر مؤسس الإمبراطورية الفارسية الاخمينية ويدعى «كورش» (Kurash) الأكبر(558- 530 ق.م)، وبوصول هذا الملك أصبح للفرس شأن في التاريخ وخاصة بعد أن تمكن من غزو بلاد بابل سنة 539 ق.م وفرض سيطرته على أجزاء كبيرة من الشرق الأدنى القديم.(26)
ومع قلة الكتابات الفارسية القديمة فإن صيغة واضحة لتسمية الخليج أطلقوها هم أنفسهم عليه لم تكن في متناول يد الباحثين بوجه الدقة، لكن الإشارات جاءت من القرن الرابع الهجري على لسان الجغرافيين الفرس أنفسهم الذين أطلقوا على الخليج اسم «خليج العراق» (27) وذلك عند جغرافي فارسي مجهول الاسم في مخطوطته الموسومة «حدود العالم» (28).
وذكر «ياقوت الحموي» وغيره من المؤرخين العرب أن «الفرس» كانوا يسمون الخليج العربي باسم «الخليج الفارسي» أو «البحر الفارسي». (29) ، وتعليل ما ذهب إليه الحموي وبعض المؤرخين العرب هو أن التسمية انتقلت إليهم من كتب اليونان والرومان، كغيرها من التسميات اليونانية التي أخذها العرب من الكتب الجغرافية التي نقلوها عن اليونانية ومثال ذلك لفظة «جغرافيا» التي هي نفسها لفظة معربة نقلت من اليونانية إلى العربية ومازالت حية مستعملة في لغتنا العربية، وغيرها الكثير كمصطلح «Arabia Beata» أو «Arabia Felix» والتي تعني «العربية السعيدة» أو الخصبة، و يقصد بها جزيرة العرب، التي سماها الجغرافيون المسلمون «بلاد الأعراب الخصبة»(30).
أما ما يخص ما ترجمه العرب من اليونانية عن اسم الخليج ووردت عند الجغرافيين العرب المسلمين فنذكر منها «الخليج الفارسي» (31) «البحر الفارسي» (32)، إذ إنهم ترجموا ما وجدوه بالخطأ عند بعض كتاب اليونان والرومان.
الالتباس الحاصل في شيوع اسم الخليج وربطه خطأ بفارس:
إن تسمية بعض المؤرخين اليونانيين للخليج بالفارسي في مؤلفاتهم الجغرافية -ثم قلدهم الرومان- نابعة من كون اليونانيين لم يروا هذا الخليج إلا من جهة فارس من بلاد إيران، ذلك أن الفرس احتلوا مناطق عدّة في غرب آسيا لقرون كثيرة إبان وجود اليونانيين على مسرح الأحداث التاريخية، ومن ذلك أن الأراضي المطلة على الخليج العربي وقعت تحت الاحتلال الفارسي خلال الفترات الأخمينية (539-332 ق.م) والفرثية (147ق.م.-224 للميلاد)، والساسانية (224-635 للميلاد) (33)، ولو كان اليونانيون قد عبروا إلى الجانب الغربي من الخليج وأقاموا في بره لسموه الخليج العربي أو البحر العربي، ولو كانت حقيقة اسم الخليج بالفارسي لكان في بلاد فارس إقليم أو قطر مسمى ببلاد الخليج الفارسي، مثلما كان ولا يزال في بلاد العرب بلد البحرين أي بلاد البحرين العربيين (أي الغربي والشرقي) – الخليج بساحلية أو بالخليجين معا- وبشكل أدق فإنه يجب أن يؤخذ الاسم للبلاد، من البحر كبلاد البحرين العربيين المذكورين آنفا، لا أن يأخذ الخليج أو البحر اسمه من البلاد المطلة عليه، لأن الذي سماه نظر إليه من الجهة المقيم فيها.
و مما زاد الطين بلة أن السريان ترجموا مؤلفات الجغرافيين اليونان إلى العربية فأصبحت مرجعا جغرافيا في العالمين العربي والإسلامي (34)، وبقيت التسمية اليونانية في الترجمة العربية (الخليج الفارسي)، لأن المترجم لا يغير شيئا من النص التزاما منه بالأمانة، وصارت هذه الترجمة مرجعا علميا مهما للذين عنوا بالجغرافيا من الفرس، والذين نقل بعضهم عن بعض، ثم جاء «المسعودي» فنقل من كتب من سبقه التسمية كما رآها مدونة، وأثبتها في كتبه، (35) وأخذ عنه الكتّاب تسمية الخليج العربي بالفارسي، ومن المفيد أن نذكر أنه مهما تعدد المؤرخون الذين نقلوا من مرجع واحد فإنه لا يمكن أن نعتبر مراجعهم عدة مراجع مهما بلغ عددها بل تعتبر عند العارفين بالتحقيق مرجعا واحدا.
اسم وانتساب عروبة الخليج في مدونات الرحالة الأجانب:
من بين الكتّاب الغربيين من المؤرخين والرحالة الذين تناولوا بالذكر اسم الخليج العربي نجد الرحالة الدنماركي المستشرق «كارستن نيبور» (Karsten Niebuhr) ، فهو يسلط الضوء على عروبة الخليج العربي بعد طوافه «باليمن» والخليج العربي وزيارته لأطلال «فارس» و«آشور» عام 1763 للميلاد، فألف مؤلفا يصف بلاد العرب يقول فيه ما نصه:
«من المضحك أن يصّور جغرافيون جزءا من بلاد العرب كأنه خاضع لحكم ملوك الفرس في حين أن هؤلاء الملوك لم يتمكنوا قط من أن يكونوا أسياد البحر في بلادهم الخاصة، لكنهم تحّملوا صابرين على مضض أن يبقى هـذا الساحل ملكا للعرب». (36)
كما أثــبت المؤرخ الإنجليزي «رودريك اوين» (Roderic Owen) عام 1956 ميلادية عروبة الخليج بقوله:
«لقد كانت هذه المساحات من الرمال والمياه دائما جزءا من الخليج العربي». (37)
أما في القرون الأخيرة الماضية فقد عرف الخليج العربي باسم «خليج البصرة» أو «بحر البصرة»، وأطلق عليه سكان «الأحساء» اسم «خليج القطيف» كما عرف أيضا باسم «خليج البحرين» و«خليج عمان»(38).
ومن الجدير بالذكر أن معظم المراجع والمقالات الأثرية المتخصصة بدراسة الشرق الأدنى والخليج العربي أخذت خلال العقود الأخيرة تشير في كتاباتها إلى اسم الخليج العربي، وأخذ اسم الخليج الفارسي ينحسر استخدامه في الكتابات الحديثة، وهذا ما جعلنا نستخدم اسم الخليج العربي في موضوع كثر الادعاء بكونه فارسيا من غير هدى ولا كتاب منير.
الخاتمة والاستنتاج:
نستنتج مما سبق أن الوجود الفارسي لم يتعد من حيث الاستيطان والاستقرار المساحة الواقعة خلف الجبال المحاذية للساحل الشرقي للخليج، وذلك في حدود القرن التاسع قبل الميلاد، بينما كان تواجدهم بشكل رسمي في حدود القرن السادس قبل الميلاد. أما اسم إيران الذي تعرف به اليوم فلا يتعدى استعماله أواخر القرن الثالث قبل الميلاد.
وبالعودة إلى التاريخ فلا تصح المقارنة ولا المقاربة التاريخية بين الذكر العربي لاسم الخليج ككيان سياسي مستقل ووجود حضاري لممالك عظيمة (مملكة دلمون ومملكة مجّان) من الألف الرابع والثالث قبل الميلاد باعتبار المنطقة مجالا مائيا مرة، ومنطقة لأرض غير محددة مرة أخرى، حيث تشير الأدلة التاريخية إلى أرض عرفت بأرض البحر أو القطر البحري وأخذت ضمن التسلسل التاريخي لحضارات بلاد الرافدين المتعاقبة باسم سلالة مستقلة، هي «سلالة القطر البحري» وبالبابلية «مات تامتيم» (Mat Tamtim)، والتي لا يعرف على وجه الدقة امتدادها لكنها شملت في الغالب كلا من منطقتي الخليج العربي وأهوار جنوب العراق. وأرى انه من البلادة أن يقال عن كونه خليجا فارسيا، إذ إن جميع الأدلة اللغوية في الكتابات المسمارية من الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، (ينظر كتاب الباحث المعنون: عروبة الخليج، حقائق جغرافية ولغوية، دمشق، 2011) تشير إلى أن اسم الخليج يلتصق بالممالك الخليجية ولا ينتسب البتة بأي ذكر إلى الفرس أو غيرهم ممن حكموا الهضبة الإيرانية.
إن تسمية الخليج العربي الخليج الفارسي تجانب الحقيقة التاريخية واللغوية، فرغم التصاق التسمية الفارسية بالخليج وشيوعها في الأوساط الغربية سواء اليونانية أو الرومانية وحتى الغربية المعاصرة لكتابات المؤرخين العرب، وبعض المؤرخين العرب أنفسهم، فإن الواقع التاريخي واللغوي يفضح ذلك ويفنده، فمن أولى الكتابات الآشورية التي سمت الخليج باسم «نار مارتو» (Nar marratu) أي «النهر المر» (المالح)، نجد التطابق في اللفظ والمعنى العربيين لأن اللغة الآشورية (َAssyrian ********) – نسبة إلى النصوص المكتشفة في بلاد آشور شمال العراق- هي في الواقع لهجة رئيسية تنتمي إلى اللغة الجزرية (العربية الأم) (39)، علما بأن الآشوريين كانوا يطلقون كلمة «نهر» على النهر والبحر معا، وهنا جاءت بالمفهوم الحديث للخليج، وعند المصريين في العصور الأخيرة استخدمت كلمة البحر لتدل على النهر، وفي سور القرآن الكريم ما يدل على ذلك كثيرا، فلو كان الخليج فارسيا لسمي باسم يرتبط بجذور أو بمعنى كلمة في اللغة الفارسية.
وليس أمامنا أخيرا إلا أن نقول إن الشخصية العربية للخليج قديمة قدم الخليج نفسه، وأبلغ الأدلة على ذلك وجود أقليات عربية كبيرة حتى اليوم على ساحله الإيراني الذي يمتد من مضيق هرمز من أقصى الشرق، حتى أهوار جنوب العراق في أقصى الغرب، فكيف هو الحال بالساحل العربي من جنوب العراق مرورا بدولة الكويت ومملكة البحرين وقطر وصولا إلى الإمارات وعمان على طول ساحل الخليج العربي وخليج عمان.
الهوامش والمراجع:
-1 Prichard.J.B (1969) Ancient Near Eastern **** (=ANET), Princeton, p.27.
-2 During Caspers.C and Govindankutty. A (1978) R, Thapar›s Dravidian Hypothesis for ********s of Meluhha, Dilmund an Makan, Journal of Economic and Social History of Orient (=JESHO) vol.21, part.2, p.134.
-3 King.L.W (1907) Chronieles of Eariy Babylonian Kings, vol.2, London, p.131.
-4 فوزي رشيد، من الآثار المتبادلة مع اليابان، مجلة سومر، مجلد، 26، الجزء 1-2 ، لسنة 1970، ص 110، 112.
5 - اللغة الأكدية التي احتوت على اللهجة البابلية والأشورية، فإنها تنتمي إلى اللغة الجزرية (العربية الأم) بدليل أن الأكديين أنفسهم سموا اللغة التي يتكلمون بها اللغة الأكدية أو اللسان الأكدي بقولهم «لشان أكدي» (Lisan Akkadi )، اللسان (اللغة) الاكدي وهي متطابقة لفظا ومعنى مع اللغة العربية، انظر:
The Assyrian Dictionary of Oriental Institute of the University of Chicago, Chicago, 1956, vol.1, p.272, and vol.9, p.213.
-6 Prichard.J.B, Op.Cit, p.27.
-7 Rice. M (1994) The Archaeology of The Arabian Gulf C.5000-323 B.C. London, p.16.
-8 Falkenstein.A (1960) Ibb Sin- Isbierra, Zeintschrift für Assuriologie (=ZA), vol. 15, p.68.
-9 فاروق ناصر الراوي، العلوم والمعارف، حضارة العراق، جـ2، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1985، ص 282.
-10 Prichard.J.B, Op.Cit, p.267.
-11 Ibid.
-12 منير يوسف طه، اكتشاف العصر الحديدي في دولة الإمارات العربية المتحدة، مركز دراسات الخليج العربي، جامعة البصرة، قسم الدراسات التاريخية والجغرافية، 1989، ص218.
-13 قصي منصور التُركي، التجارة المائية لبن ممالك بلاد الرافدين وممالك الخليج العربي خلال الالف الثالث قبل الميلاد- دراسة في ضوء النصوص المسمارية والادبة الاصرية المادية، دار اشلبيليا، الرياض، 2019، ص10-11.
-14 Potts.D.T (1990) The Arabian Gulf in Antiquity, from Prehistory to the Fall of the Achaemenid Empire,
vol.1, Oxford, p.146.
-15 يذكر الاسم بهذه الصيغة في السطر العاشر من الرسالة المرقمة (58418) (القفا) والمحفوظة في المتحف العراقي، انظر:
Fadhil A.Ali, (1970), Three Sumerian Letters,Sumer, vol.26, Nos, 1-2 ,p p.160, 163, 166.
-16 Von Soden.W, Op.Cit, p.53
-17 Brinkman, J.A (1977) , Mesopotamian Chronology of the Historical Period, Un of Chicago, London, P.337.
-18 سامي سعيد الأحمد، تاريخ الخليج العربي من أقدم الأزمنة حتى التحرير العربي، منشورات مركز دراسات الخليج العربي، جامعة البصرة، 1985، ص10-12.
-19 Raymond Phili. P.D (1932) The Sea land of Ancient Arabia,Yale Oriental Series Researches, vol.19, pp.122-141.
-20 During Caspers, c.L and Govindankutty, A, Op.Cit, p.134.
-21 جواد علي، الخليج عند اليونان واللاتين، مجلة المؤرخ العربي، الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب، مطبعة الإرشاد، بغداد، العدد 12، لسنة 1980 ، ص 19.
-22 رضا جواد الهاشمي،الحدود الطبيعة لرأس الخليج العربي، مجلة الجمعية الجغرافية العراقية، مجلد 13، حزيران 1982، ص240.
-23 Wilson.A.(1921) The Persian Gulf, London, p.43.
-24 جواد علي، مصدر سابق، ص 20-21.
-25 نفس المصدر، ص 23-24.
-26 عن فتوحات هذا الملك وعصره واسم فارس ومادي، انظر: طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ج2، بغداد، 1956،ص398 ومابعدها
-27- Minorshiy.V (1937) Hudud Al –Alam, (Regions of the Word), A Persian Geography, London, p.52.
-28 سامي سعيد الأحمد، تاريخ الخليج العربي من أقدم الأزمنة حتى التحرير العربي، منشورات مركز دراسات الخليج العربي بجامعة البصرة، 1985، ص10.
-29 أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، (ت 626هـ)، معجم البلدان، تحقيق، فريد عبد العزيز، ج4، دار الكتب العالمية، ط1، بيروت، 1990 ص 258.
-30 جواد علي، مصدر سابق، ص 21-22.
-31 علي بن الحسين المسعودي، (ت 346هـ)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، منشورات الجامعة اللبنانية، ج1، بيروت، 1965، ص 129.
-32 عبيد الله بن عبد الله، ابن خرداذبة، (ت300هـ)، المسالك والممالك، ، طبعة بالأوفسيت، مكتبة المثنى، بغداد بدون تاريخ، ص 233.
-33 طه باقر، 1956، مصدر سابق، ص 399-415، 465-511.
-34 مصطفى جواد، بل هو الخليج العربي شاء الجهلاء أم أبوا، مجلة الأقلام، مجلة فكرية عامة تصدرها وزارة الإعلام العدد 11، السنة السادسة، 1970، بغداد، ص 79.
-35 علي بن الحسين المسعودي، (ت 346هـ)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، القاهرة، 1303 هـ.
-36 سالم سعدون المبادر، جزر الخليج العربي، دراسة في الجغرافية الإقليمية، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1981، ص29.
-37 سالم سعدون المبادر، مصدر سابق، ص25.
-38 منير يوسف طه، 1989، مصدر سابق، ص218.
-39 اثبتت الدراسات اللغوية الحديثة استخدام مصطلح «اللغات الجزرية» بديلا عن مصطلح «اللغات السامية» الذي كان يستخدم في البحوث الأثرية من عام 1781م للدلالة على مجموعة من اللغات التي انتشرت في منطقة الهلال الخصيب منذ أقدم العصور، واستخدمت في العراق مع أواخر الألف الرابع قبل الميلاد على أقل تقدير، وهو التاريخ الذي حلت فيه الأقوام الجزرية بأرض العراق، لأن الأقوام التي تكلمت هذه اللغات- من عربية وآرامية وأكدية (اشورية-وبابلية) وغيرها من اللهجات – هو شبه الجزيرة العربية، لذا يفضل استخدام مصطلح «اللغة الجزرية». لمزيد من المعلومات انظر: طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، منشورات دار البيان، بغداد، 1973، ص 63-64 كذلك: كاصد الزيدي، فقه اللغة العربية، ط1، جامعة الموصل، الموصل، 1987، ص 61-62.
*{ أكاديمي وباحث مقيم في أستراليا
أستاذ الآثار واللغات القديمة لبلاد الرافدين والخليج العربي
http://www.akhbar-alkhaleej.com/news/article/1220717
صفحة جديدة 2