عن أي عقل عربي نتحدث؟
كيف نفهم أحداث التاريخ على وجهها الحقيقي؟ وما سبب التفسيرات التي قد تكون متناقضة للحدث الواحد؟ إذا كان المتقدمون قد احتاروا في فهم أحداث التاريخ وتفسيرها، فإن المتأخرين ليسوا أقل حيرة والتباسًا من المتقدمين! لديّ بعض الأمثلة الحية التي ما زالت أحداثها طرية للإشارة إلى كيف يمكن أن «تزوّر» أحداث التاريخ حتى لو كان هناك شهود أحياء على أحداثها. في نهاية الشهر الماضي فبراير (شباط) 2016 وافقت ذكرى ربع قرن على احتلال وتحرير الكويت، وكانت مناسبة للبعض لتوظيف الذكرى مع إلباسها لبوسًا غير ما كانت عليه، وبالطريقة التي تخدم غرضها السياسي، فقد استضافت محطة تلفزيون «آر تي» الروسية، الناطقة بالعربية، شخصين للحديث عن المناسبة، كان لهما موقع صحافي في ذلك الوقت، هما السيدة لميس أندوني والسيد ميشال الحاج. الاختيار للأشخاص بحد ذاته، والظرف الذي عرض فيه البرنامج كان مناسبًا جدًا للتوظيف، وهو ظرف صراع روسي – أميركي محتدم في الشرق الأوسط. لذلك لا بد من ليّ الحقائق وتحميل الأخطاء على «السياسة» الأميركية، وفي الطريق (الإتيان بادعاءات ليست لها علاقة بالواقع والحدث). التوظيف كان ضد أميركا، والتشويه ضد الكويت.. قيل في الحلقة «إن خطة الإطاحة بصدام حسين واحتلال العراق كانت موضوعة في عام 1988، وقد وضعها آنذاك الجنرال نورمان شوارتزكوف، الذي قاد حملة التحرير بعد ذلك»، وحتى يبدو الكلام منطقيًا، فقد قيل في البرنامج إن «الدليل هو أن (طائرات هليكوبتر أميركية) نقلت أمير الكويت وقتها إلى السعودية (إشارة إلى تأكيد المؤامرة الأميركية)»، وكل من يعرف الحقائق على الأرض يعرف عن يقين أن أمير الكويت انتقل إلى المملكة العربية السعودية عن طريق البر، ومعروف من قاد السيارة والطريق الذي اتخذه بشكل دقيق لا مواربة فيه! البرنامج مليء بالخيالات التي لا داعي لتكرارها، لكن الفكرة العامة هي أولاً تبرئة الفاعل من هول فعلته (في هذه الحالة القيادة العراقية ممثلة في صدام حسين)، وإبعادها عن أي خطيئة ارتكبت، ووضع جميع الأخطاء على الآخر، وكيل الاتهامات إليه من أجل القول بأن الآخر (الولايات المتحدة) الذي يخوض صراعًا باردًا مع الروس اليوم هو من يقوم بارتكاب الخطايا، وهو نظام تفكير استقر في أذهان كثير من العرب، بعضهم يقدم نفسه على أنه «شخص مطلع»، وسمى ذلك النظام من التفكير «نظرية المؤامرة»، أي وضع كل الموبقات على الآخر، والسبب الثاني هو «تزوير التاريخ» بما يناسب عقل القائل ويخدم غرضه، لأن المشاهد أو المستمع المتعجل يعد أن ما يصغى إليه هو «الحقيقة كل الحقيقة».
ذكرت ما سبق بشيء من التفصيل حتى أعرج إلى ما نشاهده ونسمعه اليوم، فما يدور في سوريا هو «مؤامرة من الخارج»، هكذا يردد بشار الأسد وطاقمه. الغرض من هذا الترديد «تبرئة النفس» و«لوم الآخر»، دون الاقتراب من الاعتراف أن ما قاد ويقود تلك الأعمال الوحشية كان ولا يزال هو «العمى السياسي»، فتلك الممارسات السياسية لعقود التي انتفت فيها العدالة، وزاد الفساد والقمع، هي سياسات قادت إلى كل هذا الخراب، وهي بجانب كونها عمياء طفولية ومعجونة بكثير من الصلف والخُيلاء، فالتدمير الشامل للقرى والمدن والإنسان السوري جاء بسبب داخلي وليس خارجيًا كما يزعم! القضية الأخرى الكبيرة التي يقع لها العقل العربي ضحية، أو قل معظم العقل العربي، هي «مقاومة إسرائيل»، فنجد أنه كلما أراد عابث نزق بالأمن القومي أو الوطني تحدث عن «تحرير فلسطين»، وأودى في طريقه بالأمن الوطني والقومي معًا، مستخدمًا ذلك الشعار كي يشب على أكتاف الآخرين، ويُسكت أي نقد منهم لتصرفه ونزقه الأحمق، فمقاومة إسرائيل والاستعداد لطردها من المنطقة جال على لسان أشخاص من محمود أحمدي نجاد إلى حسن نصر الله، والويل لمن يقترب من فضح ذلك الشعار وبيان التكسب السياسي به، أو نتائجه الكارثية على الأوطان في تمكين الطغاة وتفريخ الميليشيات، فهو إما «خائن» وإما «عميل» وإما حتى كلاهما معا يستحق التهميش والتصفية! فعلى المذبح الفلسطيني المزيف هدمت أوطان وقتل عشرات الآلاف، وأصبح الباقي رهينة «الابتزاز» ذاك.
اليوم الساحات الابتزازية التي تعادي دول ومجتمعات الخليج كثيرة، فقط لأن الأخيرة بقيادة المملكة العربية السعودية قالت «لقد بلغ السيل الزبى»، وكفى ابتزازًا وتزييفًا للتاريخ، فاندلعت أبواق كثيرة، إما تضخم الصغائر وإما تبتكر لها تفاصيل جديدة، مضيفة إلى الخيال المريض كتلاً من الأوهام، لاستمرار تزييف الوعي للمواطن العربي. هذا العداء الذي بدا يظهر إلى العلن، إما هو موقف من دول ومجتمعات الخليج كونها «مجتمعات يُسر وفي الوقت نفسه بداوة»، وهي توليفة تحمل الإهانة ويسهل بيعها للعوام والسذج، وإما بسبب أن ما يعانيه البعض من حكوماتهم يجير على أكتاف أهل الخليج، لأنهم غير قادرين على مواجهة قمع تلك الحكومات. فنرى ذلك البعض يُرحل كل الشرور التي حولنا اليوم أنها من جراء احتلال العراق، وهو ترحيل يشير إلى أن دول الخليج «سهلت ذلك الاحتلال»، ويتناسون عن قصد تلك السياسات العمياء التي قادت في داخل العراق إلى النتيجة التي وصل إليها، كما يطبقون القول اليوم على ما يحدث في سوريا من جديد، متناسين الأسباب الحقيقية لذلك التدهور الناتج عن التهور السياسي، وينطبق ذلك لدى البعض في اليمن بل وحتى ليبيا وربما تونس، فالشرور كلها تقع، من وجهة نظر هؤلاء، على دول الخليج دون غيرها في عجز فاضح لمواجهة الحقائق. الاستمرار في تزييف الحقائق شابه شيء من القصور من دول الخليج، لأنه رغم أخذهم بعاصفة الحزم «العسكرية والدبلوماسية» التي بدأت مفاجئة للبعض، حتى الآن لم ينتبهوا، إلا قليلاً، لأهمية عاصفة حزم إعلامية، وأعني الإعلام بأشكاله المختلفة، الذي يتضمن مصفوفة كاملة هدفها الانتقال من الدفاع السلبي إلى التوضيح الإيجابي ومخاطبة العقول والقلوب. لقد اعتمد الإعلام الخليجي، خصوصًا في وسائله الخارجية والمرئية، على مناصرين «باللسان» ومعادين «في القلب» ينحون إلى التبرير والمهادنة، السبب هو المحاولة غير الناجحة لاحتواء التعدد الذي تحول إلى تنافس سياسي أضر بالمشروع كله، وأدى في بعض الأوقات إلى اندلاع «نيران صديقة» بين الأطر الإعلامية الخليجية، وهي أكثر تجريحًا، لأنها صادرة عن منصات المفروض أنها صديقة. لا تخوض الشعوب حروبًا ساخنة دون الانتباه إلى أهمية الإعلام المهني، ولنا في سيرة الشعوب الأخرى التي مرت بمثل ما نمر به أسوة وأمثلة لا تحصى. إن ترك تشكيل العقول على عواهنه يتبعه تشكيل مرافئ سلبية للقلوب، ومواقف متحيزة، كما أن ذلك التشكيل يحتاج بجانب صدق التعاون إلى خطط تتعدى الأفراد والاجتهادات الظرفية، في خضم تدفق هائل وغير مسبوق لوسائل إعلام تقليدية وحديثة تحاصر المتلقي العربي، وتوظف في كثير منها للنيل من الجزء المستقر من الجسم العربي تمهيدًا لاستمراضه.
آخر الكلام:
تزوير التاريخ ظهر في الخطاب المتهافت لحسن نصر الله الأخير الذي يدل على ارتباك وعصبية، بعد نقل المعركة إلى عقر داره، فقد اتهم المملكة العربية السعودية بإرسال سيارات مفخخة إلى لبنان، بقي أن يتهمها بقتل رفيق الحريري! إن لم تستحِ فقل ما شئت!
محمد الرميحي
صفحة جديدة 2
__________________