رسالة إلى الزوجة الأولى
كتبت قديماً “رسالة إلى معدد” فيها نصائح ووصايا على لسان الزوجة الأولى، وكنت أنوي كتابة “رسالة إلى الزوجة الأولى” أخفف عنها المعاناة، وأهون عليها الخطب، وأعينها على مجاوزة الأزمة، وكشف الغمة، ولكني شغلت عن الموضوع، وكلما ألتقي بزوجة معدد، وأسمع معاناتها، تتجدد النية، حتى التقيت بأخت لي في الله، فسألتني إن كان لي كتابة في الموضوع، تخفف ألمها، وتهون عليها أمرها، وتعينها على التأقلم، علماً بأن هذه الأخت مر على زواج زوجها ثلاث سنوات، وكنت أظن أن مرور هذه السنوات كفيلة بمجاوزة الأزمة، ولكن:
الألم مازال فأين الخلل؟!
هل النظرة إلى القضية؟
أم ممارسات الزوج المعدد؟
أم ضغط المجتمع والنظرة غير المقبولة؟
أم ردة فعل الأهل والأقارب والصديقات؟
أم طبيعة الشخصيات والنفسيات وتفاوتها غيرة وحدة؟
ومهما تنوعت الأسباب، وتعددت المظاهر، يبقى أن هناك عوامل مشتركة في كل الحالات:
الزوج المعدد، الزوجة الأولى، الزوجة الثانية، الأهل والمجتمع.
كل هذه العوامل تسهم في الخلل الحاصل، وفي الوقت نفسه تساعد في تقبل الأمر والتعايش مع الواقع.
في هذا المقال يهمني بالدرجة الأولى، الزوجة الأولى، وهي المصابة والمبتلاة، وهي المعنية بالرسالة، وهي المقصودة بالعناية، والمحتاجة لمزيد الرعاية.
وكل رجل صاحب قلب، ويقدر العواطف والمشاعر، ويفهم النفسيات، لابد أن ينتبه لهذه النقطة جيداً، ويحرص على معالجة هذه النفسية بمزيد اهتمام وعناية لا العكس.
وقد أدهشني موقف المصطفى – صلى الله عليه وسلم – في ليلة زواجه بزينب بنت جحش، حيث قال أنس رضي الله عنه: “فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم – فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، فتقرَّى – تتبع – حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة”، هذا التتبع لنسائه في ليلة الزواج من العناية والرعاية.
“وكان – صلى الله عليه وسلم – إذا صلى العصر دار على نسائه، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن، فإذا جاء الليل، انقلب إلى بيت صاحبة النوبة فخصها بالليل”. هذه العناية والرعاية بالزوجة السابقة خففت الوطأة وهونت الخطب.
ولا أريد الاستطراد في موقف المعدد وسبل العناية بزوجه، فلعلي أفرد له مقالاً في وقت آخر.
وما يهمني في هذا المقال هو موقف الزوجة الأولى، وماذا تفعل حين يعدد عليها زوجها؟
وكيف الثبات في هذا الأمر؟ ولي في ذلك عدة وقفات:
أولاً: التعدد شرع الله وحكمه، قدّره لحكمة ولمصلحة، وأن الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بما يصلح لهم وينصلحون به، فقد قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، والشارع لا يقصد أبداً إعنات المكلفين أو تكليفهم بما لا تطيقه أنفسهم، فكل ما ثبت أنه تكليف من الله للعباد فهو داخل في مقدورهم وطاقتهم.
ثانياً: تقدير هذا الأمر عليك ابتلاء من الله لا من زوجك، وإنما هو سبب، ولو خيرت بين هذا البلاء وغيره من مرض أو فقد عزيز أو مصيبة في دينك، لوجدت أن هذا أخف البلاء وأهونه؛ وبالتالي عليك التعامل معه كالتعامل مع المصائب حين نزولها، وهنا تتجلى عقيدة الإيمان بالقدر خيره وشره. ” والمكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد، وأدى فيها وظيفة الصبر والرضا والتسليم، هانت وطأتها، وخفت مؤنتها، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضا، يدع الأشياء المرة حلوة فتنسيه حلاوةُ أجرها مرارة صبرها”.
ثالثاً: الأجر على قدر المصيبة، فكلما عظم همك وغمك وزاد حزنك، فلك الأجر، وهذا من لطف الله بعباده، يبتليهم ليرفع درجاتهم ويضاعف أجورهم، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، “وأن الإنسان قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة، التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة، لآماله وحياته، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وعطية في رداء بلية، وفوائد لأقوام ظنوها مصائب، وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب!”..
رابعاً: إنك في كل الأحوال مأجورة غير مأزورة، فإن أصابك ظلم وأذى فصبرت فلك الأجر، وإن نالك عدل وخير فشكرت فلك الأجر، وهذا من فضل الله عليك، وهو إن عدل فله وإن ظلم فعليه، ولا يلحقك شيء من ذلك الظلم إلا أجور ودعوة لك تفتح لها أبواب السماء، فلك رب يسمع وينصر، وفي الحديث: (اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) رواه البخاري ومسلم.. وجاء في الحديث القدسي: “وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا تُرْفَعُ فَوْقَ الْغَمَامِ، فَيَنْظُرُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ”.
خامساً: الاستعانة بالصبر والصلاة من أعظم وسائل الثبات، واللجوء إلى الله والانطراح بين يديه، يغسل النفس من أدرانها، ويعلق القلب بخالقه، والثبات في مثل هذه المواقف عزيز إلا من رحم الله، وسببه التعلق، فإن تعلق القلب بالزوج وفُتن به، تهتز الزوجة عند هذا الحدث وتضطرب، ولو تعلق بالله لثبت وأطمأن، وأعجبتني مقولة: “ألم التعدد، ليس أصلاً إيذاء للمرأة، بل هو باب جهاد، لتنظيف القلب من التعلق بغير الله ومن الانشغال بغير الله”.
سادساً: محاربة الشيطان ومجاهدته، فما عرف الشيطان أشد منه في مثل هذه الحالات، فما أن يخرج الزوج من الباب، إلا ويسارع الشيطان حولك فيأتيك من يمينك وشمالك ومن بين يديك، موسوساً ومحرضاً ومحزناً، فتثور نفسك، فلا يهدأ لك بال ولا يصلح لك حال، وربما ذهب الزوج لأمه أو لأهله أو لبعض شأنه، ولا يزال بك الشيطان حتى يصور لك قصصاً ويبني لك خيالاً، فلا تسألي بعدها عن تشتت الذهن، وهجوم الحزن، فعليك بملازمة الذكر لطرد الشيطان وطمأنينة القلب {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
“وقد استعاذ النبي – صلى الله عليه وسلم – من الهم والحزن، فلا ينفع الحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها وقد يضر الهم الذي يحدث بسبب الخوف من المستقبل، فعلى العبد أن يكون ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن”. قال ابن القيم “الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن؛ لذلك افرحوا واستبشروا وتفاءلوا وأحسنوا الظن بالله، وثقوا بما عند الله وتوكلوا عليه، وستجدون السعادة والرضا في كل حال”.
سابعاً: لا أعلم دواء ولا علاجاً أفضل من التقرب إلى الله بالعمل الصالح، والعلم النافع، قال الشيخ السعدي – في كتابه الوسائل المفيدة للحياة السعيدة وأنصحك به – “ومن أسباب دفع القلق الناشئ عن توتر الأعصاب، واشتغال القلب ببعض المكدرات: الاشتغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة. فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه. وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم، ففرحت نفسه، وازداد نشاطه”. فلا يذهب عمرك هدراً، ووقتك شذراً، وعملك هباء منثوراً.
ثامناً: الرجل أناني بطبعه، ويحب نفسه ويسعى لراحتها، ويبحث عن سعادته أولاً، وأنت أولى بنفسك من غيرك، حبي نفسك، واسعي لفتح أبواب السعادة، فالأبواب كثيرة والزوج أحدها، فلا تحصر السعادة في باب، ولا تغلق أبواب أخرى بانتظارك، فأنت أم وبنت وأخت، وربما أنت معلمة أو مسؤولة، ولك جيران وصديقات وقريبات، ولك أحبة وأعزاء، ولديك مهارات وخبرات، فافتحي هذه النوافذ ليصل إلى قلبك نورها، ويملأ حياتك عطرها وأريجها، والكل يحتاجك، أهلك وأولادك وأخواتك.
تاسعاً: لمجاهدة ألم التعدد، إغلاق الأبواب المثيرة للغيرة، والجالبة للحزن، فلا لتتبع الأخبار وتقصي الآثار، ولا للسؤال عن التحركات والتنقلات، ولا للتفتيش والتنبيش للجوال والرسائل، وكل نافذة أو باب يفتح ألماً أو يثير غيرة أو يفسد فرحة، يغلق ويوصد، وقديماً قالوا: “الباب اللي يجيك منه الريح سده واستريح”، فأنت فقط من يريح نفسك، ولا تنتظري من يهب لك الراحة، ومن يسعى ليجلب لك السعادة، فأنت أولى من غيرك، وأعرف بمداخل نفسك. قال ابن القيم “لا تفسد فرحتك بالقلق، ولا تفسد عقلك بالتشاؤم، لو تأملت في حالك لوجدت أن الله أعطاك أشياء دون أن تطلبها، فثق بأن الله لم يمنع عنك حاجة رغبتها إلا ولك في المنع خيراً”.
عاشراً: لستِ وحدك، ولستِ الأفضل، فزوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابيات الكرام وخير النسوة، أصبن بما أصبت، فصبرن وامتثلن، ولا أظنك خير من عائشة ولا حفصة، ولا أفضل من زينب وأم سلمة، ولا زوجك مثل أزواجهن، ولا محبتك أكثر منهن، بل إننا لا نساوي حتى شراك نعلهن، ولا نقارن بأدناهن فضلاً عن أعلاهن، فلمَ تعاظم الأمر، واستبعاد حصوله.
الحادي عشر: الرضا بالواقع والتأقلم معه، ضرورة حياتية ومهارة مكتسبة، فلن يعود الزمن للوراء، فالكل يتقدم ويتغير، والمطلوب معايشة الواقع بذكاء، ومجاهدة الفكر لنسيان الألم، ودفع الأفكار السلبية، والتسلح بمهارات التغافل والتغافر، وتغليب الحسنات على السيئات، “والتحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة، فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الله به الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا. فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه – التي لا يحصى لها عد ولا حساب – وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة”.
أخيراً هي حياتك أنت من يضع فيها لمسات سعادة، وقطرات محبة، ونسمات حنان؛ لتستحيل الصحراء إلى جنان وارفة، وتسقى بماء الصبر؛ لتثمر واحات غناء.
أعلم بأن الواقع قد يختلف، والحياة قد تكون على خلاف ما نريد، ولكني على ثقة ويقين بقوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}؛ أي كافيه جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه.
“فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث؛ لعلمه أن ذلك من ضعف النفس، ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده، فيزول همه وقلقه، ويتبدل عسره يسراً، وترحه فرحاً، وخوفه أمناً”.
د. أميرة بنت علي الصاعدي/ المشرفة العامة على مركز إسعاد للاستشارات
صفحة جديدة 2
__________________