عفوا يا وطني الحبيب، فلن انتخب !
وقبل أن تنعق الغربان في خرابات الظلمة، وقبل أن يشهر المشككين سيوف انتقاداتهم وتخوينهم، دعوني أخبركم بالقصة من أولها. فلقد كنت كغيري من محبي هذه الأرض من أول من تحمسوا للانتخابات البلدية، وحلموا بالفارق المتوقع، وكنت قد كتبت مقالا أحث فيه الجميع على المشاركة، وكنت من أول من ذهبوا فرحين لاستخراج بطاقتي الانتخابية، وكنت من أول من وقفوا بالصف الانتخابي، لأشعر بقيمتي، وحريتي، ولأشارك في اتخاذ القرار، الذي يهم بلدي. ولن أكذب عليكم، فقد تأملت أن يتم قريبا تأصيل ثقافة الانتخاب لدينا، حتى في مجلس الشورى وأكثر. ولكني أيضا كغيري ممن أصيبوا بردة فعل عنيفة معاكسة بعد ذلك، وممن غيروا رأيهم وآثروا البعد، والأسباب لذلك عدة، من أهمها: 1. أن ما حدث في حينه أن عادت لنا القبلية والفئوية والمناطقية والعنصرية بقوة تأكل الأخضر واليابس، وكادت أن تحيي بيننا (داحس والغبراء)، ولقد شعرنا بأن الجميع صاروا يجرون في الأرض حثيثا لتوريث فئة، أو لحرمان أخرى من شرف هذا الكرسي البلدي. 2. عمد المتسلقون على سلالم الدين والمذهب إلى التحزب، وأبوا إلا أن يتصدروا الموقف، وأن يتكاتفوا، ويبطشوا، ويسودوا ويظلموا، ويحاربوا بكل قدراتهم، لنزع الكرسي مِن مَن وصفوهم بغير الملتزمين. 3. أن المترفين قد هجموا على تلك الكراسي، ووزنوها بالذهب، ولعبوا بها كما يلعبون ببورصة الأسهم، حتى أن أحدهم كان قد صرف على حملته الانتخابية أضعافا مضاعفة لما ستصرفه الحكومة على تشغيل جميع تلك الكراسي!. ورغم كل ذلك، لعنا الشيطان، وتأملنا خيرا، ووقفنا في الطابور، وقلنا لا بد في البداية من خلل لا يلبث أن يتم إصلاحه، ولا بد من ضعف يتم تقويته. ولكن ما حدث بعد ذلك، كان أشبه بالضحكة السمجة، فلم نرى بعدها وجوه من تسلموا تلك المناصب، ولم نسمع لهم حسا، وخصوصا عندما ابتليت مدينة مثل مدينة جدة بما ابتليت به من دمار، أظهر للعالم كيف كان ولا زال الفساد يعيث بملفات مدننا. ولا حين خنقت العاصمة الرياض بمشروع توسعة شارع الملك عبد الله، حتى عانى منه الجميع، وظنوا بسرمديته. ولا حين تعطل مشروع نفق طريق مطار أبها، على سبيل المثال. لقد أثبتت لنا التجربة المريرة أن من انتخبناهم لتلك المناصب لا فائدة مرجوة لنا بهم لإصلاح ما يحدث وما سيحدث!. وثبت لنا أنهم هم كأشخاص الوحيدون المستفيدون من حصولهم على تلك المناصب، بعد أن أضافوها إلى سيرتهم الشخصية، وأبرزوها على بطاقاتهم التجارية، واستخدموها بقدرة وتميز لتمرير بعض أعمالهم المتأخرة. وكنا نحن كمنتخبين على الجانب الآخر خجلين غاضبين، نشعر أننا كنا أدوات بلاستيكية لعب بها لعبة سمجة، فلم ننل إلا التعب من الوقوف بالطابور الانتخابي، ولم نحصل إلا على العناء النفسي بالبحث عن كينونتنا، فكنا نتساءل هل نحن أهل بلد واحد، وهل نتمتع بنفس الحقوق والواجبات، وحتى متى يستمر تأطيرنا في القوالب القبلية والفئوية والمذهبية، والفكرية. واليوم والانتخابات الجديدة على الأبواب، نقف حيرى، فقد كنا نتمنى جميعا أن نتمكن من الوقوف مع وطننا في عملية التقدم، ولكننا كنا أيضا نتمنى أن يتم معالجة الخلل، وأن تكون الانتخابات نزيهة، بعيدة عن العقد. كما كنا نتمنى أن يكون لهذه الكراسي دورا حقيقا فاعلا يساعد البلد على النهوض، والوقوف ضد الفساد الإداري، وأن لا يكون المنصب مجرد تشريف لأصحابه. إن حدث هذا ، وإلا فالعذر والسموحة منك يا وطني الحبيب، فلن انتخب.
د . شاهر النهاري
صفحة جديدة 2
__________________